الأقصى في 2025- عام الحسم أم مواجهة مفتوحة؟

مع إطلالة العام 2025، نختتم حقبةً زمنيةً عصيبةً شهدت تصاعدًا غير مسبوق في حدة المواجهات وتكرارها داخل رحاب المسجد الأقصى المبارك ومدينة القدس الشريف، إذ بلغ متوسط هذه الصدامات مواجهةً شرسةً كل ثمانية عشر شهرًا تقريبًا. هذه المرحلة المليئة بالأحداث الجسام انطلقت شرارتها الأولى مع معركة "العصف المأكول" الضارية في غزة الصامدة صيف عام 2014، والتي جاءت كرد فعل غاضب على جريمة قتل الطفل البريء محمد أبو خضير في القدس المحتلة. ولم تمض فترة طويلة حتى اندلعت "هبة السكاكين" العارمة في القدس خريف عام 2015، ثم تلتها "هبة باب الأسباط" الشجاعة في المسجد الأقصى صيف عام 2017، أعقبتها أحداث "هبة باب الرحمة" المدوية في بداية عام 2019. وفي صيف عام 2021، تجسدت الوحدة الفلسطينية في أبهى صورها خلال معركة "سيف القدس" التي اتحدت فيها جميع الأراضي الفلسطينية في مواجهة شاملة وبطولية. وبلغت هذه الحقبة ذروتها مع حرب "طوفان الأقصى" المستمرة ببسالة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى لحظة تدوين هذه الكلمات.
على امتداد العقود الغابرة، كانت القدس والمسجد الأقصى مسرحًا لمحاولات فردية ومعزولة، تشنها جماعات يمينية صهيونية متطرفة تسعى جاهدة لإشعال الفتنة والاضطرابات في المسجد الأقصى، وذلك على الرغم من معارضة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي كانت تسعى جاهدة للحفاظ على الوضع الهش القائم وتجنب التصعيد، مع التزامها بتطبيق استراتيجية التغيير التدريجي البطيء للواقع الديموغرافي في القدس والواقع الديني في المسجد الأقصى.
على مدار عقدين من الزمن، منذ الاحتلال الغاشم عام 1967 وحتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، لم يشهد المسجد الأقصى محاولات ممنهجة ومنظمة من قبل حكومات الاحتلال لتغيير الوضع القائم فيه، واكتفت سلطات الاحتلال بالتستر والتغطية على الاعتداءات الفردية التي استهدفت المسجد الأقصى المبارك، مثل محاولة إحراقه الآثمة على يد المسيحي المتطرف الأسترالي دينيس مايكل روهان عام 1969، واعتداء الجندي الأميركي الإسرائيلي ألان غودمان على قبة الصخرة المشرفة عام 1982.
وبعد انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، بدأت الاعتداءات على المسجد الأقصى تأخذ طابعًا جماعيًا معزولًا ظاهريًا، ولكنها كانت تتم بتغطية ودعم خفي من الحكومة الإسرائيلية، كما حدث في مجزرة الأقصى المروعة عام 1990، وهبة النفق عام 1996، واقتحام أرييل شارون الاستفزازي للمسجد الأقصى عام 2000.
ومع مطلع العام 2003، بدأت عملية تغيير الوضع الراهن في المسجد تأخذ منحى حكوميًا جديًا ومدروسًا، وذلك بعد استيلاء اليمين الإسرائيلي المتطرف على السلطة وإحكام قبضته على مقاليد الحكم. تم فتح المسجد الأقصى للاقتحامات اليومية المنظمة، وبدأت عمليات التضييق الممنهج على عمل دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس. وشهد هذا العقد أيضًا تصاعد أساليب المقاومة الفلسطينية لهذه الأحداث الجسام، من خلال المؤسسات الرسمية التابعة للحركات الإسلامية في القدس والداخل الفلسطيني.
لكن كل هذه التكتيكات والأساليب تغيرت بشكل جذري مع بداية العقد الأخير 2014-2024. ويبدو أن السبب المباشر وراء هذا التحول كان إغلاق مؤسسات الحركة الإسلامية الشمالية في الداخل الفلسطيني، مما أدى إلى إغلاق الباب أمام الدفاع المؤسسي المنظم عن المسجد الأقصى، وفتح الباب على مصراعيه أمام المقاومة الشعبية العفوية غير المؤطرة بإطار مؤسسي أو حركي. بالإضافة إلى ذلك، بدأ الاحتلال في محاولاته لتغيير كافة المعادلات التي طالما تعايش معها في الأقصى، وخاصةً مع صعود تيار الصهيونية الدينية المتطرفة بشكل غير مسبوق ليسيطر على الحكم فعليًا في إسرائيل في حكومة نتنياهو الأخيرة.
منذ عام 2012 وحتى يومنا هذا، ومع تصاعد وتيرة الأحداث في المسجد الأقصى عامًا بعد عام، كنت ألاحظ أن عبارة "أصعب الأعوام" تتكرر باستمرار في كل تقرير سنوي يتم نشره حول الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد. فكل عام كان أشد قسوة على الأقصى من العام الذي سبقه، وكل عام كان يشهد تقدمًا ملحوظًا في محاولات حسم قضية المسجد.
نستثني من هذه القاعدة عام 2017 الذي شهد منتصفه هبة باب الأسباط، والتي أجبرت الاحتلال على التوقف وإعادة تقييم حساباته طوال ذلك العام خوفًا من إطلاق شرارة انتفاضة فلسطينية ثالثة. وكذلك عام 2021 الذي شهد معركة "سيف القدس" البطولية، والتي أدت إلى مراجعة شاملة لإستراتيجية الاحتلال في الأراضي الفلسطينية بقية ذلك العام.
فيما عدا هذين العامين الاستثنائيين، كان كل عام من تلك الأعوام ينتهي فعليًا بتحقيق تقدم جديد للاحتلال، أو بمحاولات انتقامية يائسة لتعويض التراجعات التي كان يفرضها عليه الشعب الفلسطيني الأبي في بعض الأعوام، مثل معركة العصف المأكول عام 2014، وهبة القدس عام 2015، وهبة باب الرحمة بداية عام 2019.
ففي كل مواجهة من هذه المواجهات، كان الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة الفلسطينية الباسلة يفرضون على الاحتلال تراجعًا تكتيكيًا مؤقتًا، ولكنهم كانوا يفشلون في استثمار هذا التراجع التكتيكي وتحويله إلى تراجع إستراتيجي على مستوى المشروع الإسرائيلي الشامل في القدس المحتلة، وذلك للأسف الشديد.
ولعل السبب في ذلك يكمن في تقاطع قضية القدس والمسجد الأقصى مع عدد من القضايا والقوى الإقليمية التي تتجاوز حدود الأراضي الفلسطينية، بالإضافة إلى عدم وجود أي بنية منظمة وفعالة للمقاومة الشعبية بكافة أشكالها داخل القدس، سواء من حيث البنية التنظيمية للفصائل الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، أو مؤسسات الحركة الإسلامية الشمالية في الداخل الفلسطيني التي تم حلها وتفكيكها. وبالتالي، انحسر الوجود المؤسسي الفاعل في القدس في دائرة الأوقاف الإسلامية، التي تشكل الإطار الرسمي البيروقراطي في إدارة شؤون المسجد الأقصى، باعتبارها هيئة حكومية تابعة لوزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الأردنية، وبعض مؤسسات الحركة الإسلامية الجنوبية في الداخل الفلسطيني، التي لا تستطيع بسقفها السياسي والأيديولوجي التحول إلى حالة مواجهة شعبية منظمة مع الاحتلال، دون التقليل بالطبع من أثر هذه المؤسسات في تلبية الاحتياجات اليومية والموسمية اللازمة للمسجد الأقصى.
إن التراجع التكتيكي للاحتلال لا يعني أبدًا تخليه عن مشروعه الإستراتيجي الخبيث، وهذا ما كان يجب على الشعب الفلسطيني بكافة قواه ومؤسساته وفصائله أن يدركه ويفهمه جيدًا بعد كل مواجهة مع الاحتلال الغاشم. ولهذا السبب، فإن ما صبر عليه الاحتلال الإسرائيلي طيلة خمسة عقود مضت، بدأوا بتنفيذه بمنتهى السرعة والوحشية في عام واحد فقط خلال معركة طوفان الأقصى.
ولذلك، شهد عام 2024 أعتى موجة من الاعتداءات المتزامنة على القدس بأكملها وعلى المسجد الأقصى بشكل خاص، وذلك بعد استلام تيار الصهيونية الدينية المتطرفة مقاليد الحكم تقريبًا في حكومة نتنياهو خلال العام المنصرم، وتمكنهم من السيطرة على الملفات الأكثر حساسية فيما يتعلق بالقدس، ألا وهي المال والأمن، من خلال سموتريتش في وزارة المالية، وبن غفير في وزارة الأمن القومي.
ونتيجة لذلك، شهدنا إحصائيات مروعة وغير مسبوقة في عام 2024، حيث تجاوزت عمليات الهدم في القدس كافة الإحصاءات السنوية السابقة، مع هدم أكثر من 335 منشأة سكنية وتجارية في عام واحد فقط. بالإضافة إلى ذلك، تم تسجيل أكثر من 1200 حالة اعتقال بين المقدسيين، وصدرت أحكام فعلية بالسجن على أكثر من 370 حالة منهم، إضافة إلى حوالي 60 قرار حبس منزلي. واستشهد 33 مقدسيًا خلال هذا العام، واحتجزت سلطات الاحتلال جثامين 11 شهيدًا منهم ولم يتم دفنهم حتى لحظة كتابة هذه السطور.
أما المسجد الأقصى المبارك، فقد شهد أكبر عملية اقتحام في تاريخه من حيث الكم والنوع خلال هذا العام. فمن حيث الكم، اقتحم المسجد الأقصى أكثر من 59 ألف مستوطن خلال العام، وذلك بمعدل حوالي 193 مستوطنًا يوميًا (باستثناء يومي الجمعة والسبت). بينما صدر في حق المقدسيين أكثر من 120 قرارًا بالإبعاد عن المسجد الأقصى.
ومن حيث النوع، فقد شهد المسجد الأقصى لأول مرة تطبيق قرار الوزير المتطرف بن غفير بإقامة كافة الطقوس الدينية للجماعات الاستيطانية المتطرفة علنًا وبشكل سافر. وأصبحنا نشاهد برامج يومية معلنة لجماعات المعبد المتطرفة لإقامة الطقوس الدينية اليومية، كصلوات ومواعظ الصباح وصلوات المساء. وباتت المجموعة المتطرفة التي تسمي نفسها "إدارة جبل المعبد" تتصرف فعليًا باعتبارها هي الجهة التي تدير شؤون المسجد الأقصى، فنرى الحاخام شمشون إلباوم يستقبل الوزراء وأعضاء الكنيست والسياسيين الإسرائيليين، وغيرهم في المسجد الأقصى، ويرافقهم في اقتحاماتهم وكأنه هو المسؤول عن المكان. ورأينا منعًا تامًا لحراس المسجد الأقصى من الوجود حتى بالقرب من المستوطنين خلال اقتحاماتهم.
إضافة إلى ذلك، ولأول مرة منذ أكثر من عشر سنوات، رأينا عمليات ترميم تجري في بعض المناطق في المسجد الأقصى، بعد أن كانت سلطات الاحتلال قد منعت عمليات الترميم نهائيًا. وتتردد أنباء مقلقة في هذا السياق عن احتمال كون بعض هذه العمليات تتم بالقوة بإشراف سلطة الآثار الإسرائيلية. وهذا يعني فعليًا أن سلطات الاحتلال أصبحت شريكًا كاملًا في إدارة شؤون المسجد الأقصى، وأن دور الأوقاف الإسلامية بات محصورًا في إدارة شؤون المسلمين فقط في المسجد، وهذا ما حذرنا منه مرارًا وتكرارًا في الماضي.
بهذا الوضع المتردي والمزري تستقبل القدس والمسجد الأقصى عام 2025، والذي تشير العديد من الدلائل والقرائن إلى أن حكومة الاحتلال وأذرعها المختلفة في المؤسسات والحركات الاستيطانية تسعى جاهدة لجعله عام الحسم في المسجد الأقصى أولًا، وفي مدينة القدس ثانيًا.
فالحرب الشعواء والمدمرة على غزة الآن تسعى لتغيير المعادلات على الأرض، عبر تغييب المقاومة الفلسطينية ولجمها ومنعها من الرد على أي عمل كبير في المسجد الأقصى. ولا شك لدي مطلقًا أن المحطة القادمة بعد توقف الحرب على غزة ستكون القدس، وبالذات المسجد الأقصى، ثم ستنتقل إلى الضفة الغربية سواء بعد القدس أو في نفس التوقيت.
ولا ننسى أنه بغض النظر عن احتمالات سقوط حكومة نتنياهو المتطرفة، فإن الانتخابات القادمة يفترض أن تجرى في عام 2026. وتشير كافة الاستطلاعات والإحصاءات إلى احتمال فشل تيار الصهيونية الدينية الحاكم اليوم في إسرائيل في الاحتفاظ بالسلطة في حال إقامة الانتخابات في موعدها المحدد. ولذلك، فإنه لا بديل لدى هذا التيار المتطرف عن محاولة تغيير الواقع تمامًا وفرض رؤيته على القدس والضفة الغربية، وبالطبع المسجد الأقصى، قبل نهاية هذا العام.
فمشروع الاحتلال التوسعي في هذه المنطقة قائم ومستمر ولا يحتاج إلى مبررات أو أعذار ليتقدم ويتوسع. ولا يوجد حل أمام الشعب الفلسطيني الأبي إلا استباق مشروع الاحتلال الخبيث بمواجهته بكل الوسائل المتاحة ودون أي خطوط حمراء، دفاعًا عن كينونة ووجود المسجد الأقصى المبارك نفسه.